الفصل الثاني: قصتي مع الغاز المسال LNG في قطر

الفصل الثاني

قصتي مع الغاز المسال  LNG في قطر

 

2-1 زيارة كاشفة لليابان المدهشة

 

 

في أواخر عام 1975 تم تعييني في لجنة المساهمين لشركة "قطر غاز" التي تأسست بموجب المرسوم رقم 32 لسنة 1974، وتم التصريح لشركة شل بالمشاركة فيها بنسبة 49% بتاريخ 2/12/1974. وذلك لاستغلال حقل الشمال البحري للغاز الطبيعي غير المصاحب وتصدير الغاز الطبيعي المسال LNG منه.

******

اتصل بي سعيد المسحال مدير المركز الفني للتنمية الصناعية بحكومة قطر وعضو مجلس إدارة المؤسسة العامة القطرية للبترول الذي كان يتابع مشروع تسيل الغاز الطبيعي مع شركة شل وأخبرني أن المشروع انتقل من المركز الفني للتنمية الصناعية إلى المؤسسة العامة القطرية للبترول وأن المؤسسة قررت تسميتي مع الدكتور محمد عرابي مدير إدارة البتر وكيماويات في المؤسسة لنمثل المؤسسة مع اثنين تعينهما شركة شل في لجنة تسيير شركة قطر غاز. وقال لي إن وفدا من شركة قطر غاز بصدد زيارة اليابان للتعرف على مستوردي الغاز المسال LNG هناك وقد قرر مجلس إدارة المؤسسة ذهابي مع الوفد لليابان لاستكشاف فرص تصدير الغاز القطري إليها.

فاجئني قرار التعيين وقرار سفري لليابان دون أن تكون لدي فكرة واضحة عن غرض شركة قطر غاز وأنشطتها ولا عن المهمة التي سوف أسافر من أجلها بل إنني لم أحضر اجتماعا للجنة المساهمين في شركة قطر غاز كي أتعرف على توجهات الشركة وخططها وأفهم الهدف من زيارة الوفد لليابان.

طلبت من سعيد المسحال أن يزودني بوثائق الشركة ومحاضر اجتماعات لجنة المساهمين فيها وقرار التكليف وأن يهيئ لي اجتماعا مع من سيشارك في لجنة التسيير وفي الوفد المكلف بالسفر إلى اليابان وطلبت أن يمهلني على الأقل أسبوعين لتحضير معلومات أولية حول المهمة مستفيدا من الخبرات الموجودة في إدارة التسويق والنقل ومستحضرا ما سبق أن كتبته في رسالتي للدكتوراه عن أوجه استخدام الغاز الطبيعي عند ما اصطدمت مع المشرف على رسالتي حول سياسة شركات النفط الأجنبية العاملة في الخليج وحرقها للغاز بدل الاستفادة منه, كما سبقت الاشارة في الجزء الاول من العوسج.

أصيب الأخ سعيد المسحال بالحرج واخذ يلوم نفسه لأنه قد فاته أن يطلعني على مشروع تسيل الغاز الطبيعي وكان عليه حسب قوله، أن يدرك أنني بحكم كوني أول من نال درجة الدكتوراه من القطريين والمسؤول عن تسويق النفط ونقله في قطر لا بد أن أكون على صلة بمشروع تسيل الغاز وتسويقه وأن يطلعني على مشروع الغاز المسال منذ مدة.

وأردف سعيد المسحال قائلا إن ذلك لم يحصل مع الأسف، وليس هناك الآن مجال لتأخير زيارة الوفد لليابان بعد أن تحدد الموعد وأعدت الترتيبات. وختم حديثه قائلا بصيغة بين الأمر والرجاء: "سأحضر لك ملفا عن شركة قطر غاز وعن مشروع الغاز المسال تأخذه معك".

وبذلك لم يترك سعيد المسحال مجالا لي، إلا أن أوافق على السفر في الوقت المحدد القريب جدا. فالغاز الطبيعي غير المصاحب من حقل الشمال مهم لمستقبل قطر، فالحقل يعتبر من أكبر حقول الغاز في العالم واحتياطي النفط الخام وإنتاجه من الحقول البرية والبحرية في قطر يتراجع ولا بد لقطر من أن تستغل قطر الغاز الطبيعي لدعم اقتصادها عاجلا أو أجلا. كما أن فكرة سفري لليابان بلد أساطير الماضي وإنجازات الحاضر مغرية لي ومفيدة لعملي. وهذه بداية عليّ أن أستفيد منها لإدخال إدارة التسويق والنقل إلى مجال تسويق الغاز الطبيعي وأوجه استخداماته البديلة.

******

سافرنا الدكتور عرابي وأنا عن طريق سنغافورة ومنها بعد يومين إلى طوكيو وأقمنا في فندق ‘وتنابي‘ الشهير حيث التقينا بممثلي شركة شل القادمين من لندن وموظفين يابانيين من شركة شل في اليابان. وفي صباح اليوم التالي اجتمعنا وتم شرح مسار الرحلة التي علينا أن نقوم بها في أرجاء اليابان من أجل التعرف على احتياجات الصناعات المستخدمة للغاز المسال والصناعات التي تتجه لاستخدامه هناك والاطلاع كذلك على التسهيلات التي سيتم توصيل الغاز المسال إليها. كما شمل البرنامج زيارة حوض لتصنيع ناقلات الغاز المسال في مدينة اوساكا وزيارة إلى كيوتو Kyoto العاصمة التاريخية لليابان وشقيقتها الأعرق مدينة ناراNara للتعرف على حضارة اليابان وإرثها التاريخي وكذلك زيارة لجبل فوجي والبحيرات الجميلة على سفوحه.

وبعد ظهر اليوم الأول اصطحبنا الزملاء اليابانيون في رحلة سياحية زرنا خلالها معابد ومعالم شهيرة في طوكيو. وتوقفنا أمام القصر الإمبراطوري ومررنا بشارع الغنزا Ginza في وسط مدينة طوكيو التجاري ذي العمارات الشاهقة والمتاجر الكبيرة والحركة الدائبة. وفي المساء أقامت شركة شل اليابان على شرف وفد شركة قطر غاز حفل استقبال وعشاء حضره بعض من كنا سنقابلهم في طوكيو وممثلين للشركات التي سنزور مصانعها خارج طوكيو.

وقد لاحظت منذ اهتمام اليوم الثاني بنا والبرنامج المعد لزيارتنا، أن مهمتنا سوف تتحول إلى علاقات عامة وسياحة بقصد إبهارنا وكسبنا لصالح ما تم من ترتيب بين شركة شل والمستوردين للغاز المسال في اليابان. أما التفاوض على تصدير الغاز وشروطه فيبدو انه قد تم التفاهم حولها ولم يعد موضوعا للمناقشة خلال هذه الزيارة.

في اليوم الثالث لزيارتنا بدأنا جولة على مستخدمي الغاز الطبيعي المسال في خليج طوكيو وكان من أهمهما شركة كهرباء طوكيو حيث زرنا محطة لتوليد الكهرباء وقودها من الغاز المسال المستورد من أبو ظبي. كانت المحطة حديثة الإنشاء وعلى أحدث طراز وطاقتها كبيرة، ولكنها صغيرة الحجم نسبيا عند مقارنتها بمحطات توليد الكهرباء لدينا. وتتميز المحطة بالنظافة من الداخل والخارج وربما لا أبالغ إذا قلت إن نظافتها تضاهي نظافة أي مستشفى. كما لاحظت أن عدد العاملين في المحطة قليل ولكنهم من الكوادر الفنية وأنها تدار بشكل تقني عال من خلال غرف تحكم إلكترونية مع أقل قدر من الضجيج والتلوث لوجودها في ميناء طوكيو اللصيق بقلب المدينة.

وهذه المحطة النظيفة مثال لما ترغب الحكومة اليابانية في إنشاءه من مصانع ومحطات بشكل عام وفي المناطق المكتظة بالسكان على وجه الخصوص للقضاء على مصادر التلوث المصاحبة لاستخدام الديزل أو الفحم وقودا للصناعة وإنتاج الطاقة. وفي هذه الزيارة كانت هناك أيضا رسالة تطمين لنا بأن اليابان سائرة في التوسع في استبدال مصادر الطاقة عالية التلوث بالغاز الطبيعي النظيف كمصدر للطاقة وأن سوق الغاز القطري المسال في اليابان له مستقبل واعد.

بعد هذه الزيارة قمنا بزيارة ميناء استقبال ناقلات الغاز المسال المصدر من أبو ظبي وبروناي وصعدنا إلى إحدى الناقلات لندرك الفرق الشاسع بين ناقلات النفط وناقلات الغاز عالية التقنية وذات الثمن الباهظ بسبب الحاجة لنقل الغاز بعد تسيله بالتبريد ليصل إلى 160 درجة تحت الصفر.

ولذلك فإن مشروع تسيل الغاز يتكون من أربعة أنشطة مترابطة ومتكاملة ولكنها بعيدة جغرافيا بعضها عن بعض: أولها إنتاج الغاز وفصله. وثانيها تبريد الغاز 160 درجه تحت الصفر في معمل لتسييله وتخزينه في ميناء التصدير حتى وقت شحنه بالسفن إلى الجهة المصدر إليها. وثالثها أسطول ناقلات الغاز التي تنقل الغاز مبردا ومضغوطا طوال الرحلة. أما رابعها فهو تسهيلات استلام الغاز المبرد والمضغوط وتخزينه في خزانات مبردة 160 درجة تحت الصفر حتى يحين وقت إعادة الغاز المضغوط بالتبريد إلى حالته الغازية وتوصيله في أنابيب إلى مستهلكيه.

ولذلك يقال إن مشروع تسيل الغاز شبيه بمشروع خط الأنابيب Pipe Line Project مترابطة مراحله ومتكاملة مما يتطلب ضمان القيام بالاستثمار في نفس الوقت وبنفس الطاقة في كافة أنشطة المشروع الأربعة لمدة لا تقل عن 25 عاما حتى وإن كان الاستثمار في كل نشاط أو أكثر من أنشطة المشروع يقوم به مستثمرون مختلفون. ولذلك كانت السياسة الحكيمة والمتوازنة أن يستثمر منتجو الغاز في نشاط الإنتاج ومعمل التبريد من أجل تحويل الغاز إلى سائل يسهل نقله بالبواخر المبردة إضافة إلى تسهيلات التخزين والتصدير.

وفي الوقت نفسه يستثمر المستوردون في أسطول ناقلات الغاز وفي تسهيلات الاستلام والتخزين المبرد والنقل عبر الأنابيب إلى المستهلكين طوال عمر المشروع. وبذلك تكون استثمارات ومسؤوليات كل من الطرفين متناسبة وخسارة كل منهما لا قدر الله، كبيرة في حالة الاختلاف الذي قد يؤدي إلى توقف تصدير الغاز المسال.

كما جرت العادة أيضا أن يكون السعر الأساسي للغاز محددا لعمر المشروع البالغ في العادة 25 عاما ومن ثم ربطه بحركة أسعار الزيت الخام أو غيره من مصادر الطاقة كي لا يكون الاختلاف على سعر الغاز في المستقبل سببا في توقف المشروع.

******

في صباح اليوم الرابع بدأت رحلتنا خارج طوكيو: وكان يوما سياحيا بامتياز. زرنا جبل فوجي في الصباح وكان ذلك الجبل الشاهق أحد المناطق السياحية المزدحمة ينظر الزائرون بتأمل إلى قمته العالية المغطاة بالثلج وسفوحه الحادة الانحدار. شبكات التلفريك تنقل الناس إلى مستويات مختلفة من سفح الجبل من أجل التزلج أو رؤية بانورامية أفضل. وأغلب الزوار يابانيون ونحن من بينهم غرباء نبادرهم أو يبادرونا بالتحية وانحناءات الأدب الجم. وكما عرفنا فإن الانحناء عند التحية في اليابان عادة وتقليد وخاصة في بعض المهن. ويقال إن عامل أو عاملة المصعد في البنايات الحديثة الكبيرة ينحني من أجل مستخدمي المصعد أكثر من ألفي انحناءة في اليوم.

بعد منتصف النهار نزلنا من سفح الجبل إلى البحيرات للغداء والاستمتاع بالجو الساحر والحقول والأشجار المنسقة بذوق ياباني ليس له نظير. وبعد الاستراحة واصلنا طريقنا لركوب القطار السريع Bullet Train إلى أوساكا حيث سنبدأ في اليوم الخامس بزيارة حوض لبناء ناقلات الغاز ومن ثم نسافر بالقطار إلى حيث توجد مصانع صهر المعادن وصناعات أخرى كثيفة الاستهلاك للطاقة لزيارتها والتعرف على احتياجاتها من الغاز الطبيعي المسال إذا ما تحولت تلك المصانع والمحطات إلى استخدام الغاز الطبيعي بدل غيره من مصادر الطاقة.

******

وصلنا أوساكا في المساء ونمنا عميقا من اثر التعب طوال اليوم. وفي صباح اليوم الخامس بدأنا يومنا بزيارة حوض لبناء السفن تصنع فيه ناقلات الغاز المسال. واستمعنا لشرح واف عن طبيعة هذه السفن مقارنة بناقلات النفط ومشتقاته أو ناقلات سوائل الغاز LPG التي تحتاج إلى تبريد في حدود 40 درجة تحت الصفر وليس 160 درجة كما هو الحال مع ناقلات الغاز السائل LNG. وقد لفت نظر الدكتور عرابي ونظري اهتمامهم بالتقنية المعقدة التي تحتاج ناقلات الغاز المسال إليها نتيجة اعتمادها على تبريد الغاز طوال رحلة آلاف الأميال والخطورة التي يمكن أن تنشئ في حالة توقف أجهزة التبريد فجأة.

وتساءلنا عن احتمالات التطور التقني في بناء هذه السفن باهظة الثمن. فقيل لنا أن التطور الذي يمكن أن يغير من طبيعة هذه السفن ويخفض تكاليفها بشكل كبير يمكن أن يأتي من أحد اختراعين أما استخدام مواد خام جديدة قوية التحمل لتصنيع خزانات لسفن نقل الغاز المسال تكون قادرة على احتواء ضغط الغاز المسيل دون تبريد أثناء الرحلة، أو طلي الخزانات الحالية بطلاء عازل فعال يحفظ برودة الغاز المسال دون حاجة للقيام بمواصلة تبريده أثناء الرحلة. ولكنهم عادوا ونفوا احتمال تطوير مثل هذه التقنيات في المستقبل المنظور لعمر الناقلات الافتراضي وهو 25 عاما، حيث يجب استهلاك السفن خلال هذه الفترة. وعند سؤالنا عن مدى الخطورة في حالة توقف التبريد أو حدوث انفجار في أحد السفن قيل لنا إن الخطورة عظيمة؛ فلو انفجرت – لا قدر الله - باخرة محملة بالغاز المسال في ميناء طوكيو على سبيل المثال لدمرت مساحة قد تغطي مدينة طوكيو وقضت على ما فيها من بشر وشجر وحجر.

من هذه الزيارة أدركت خطورة ناقلات الغاز المسال ومجازفة الاستثمار فيها وعرفت سبب ارتفاع تكاليف بناءها وتشغيلها مقارنة بغيرها من ناقلات الهيدروكربون ولذلك فإن تكلفة نقل الغاز من قطر إلى اليابان على سبيل المثال كانت في ذلك الوقت تناهز أكثر من ثلث السعر الذي يتم بيع الغاز المسال به لليابان.

 وجدير بالذكر أن الغاز المسال يعاد إلى حالته الغازية في الدول المستوردة له عند استخدامه كطاقة أو مواد خام لصناعة البتر وكيماويات. وهذا يعني أنه لو استخدمنا الغاز المصاحب في قطر لنفس الأغراض التي تستخدم اليابان الغاز الطبيعي من أجلها مثل صناعات صهر المعادن وتشكيلها والصناعات البتر وكيماوية وصناعات أنتاج الكهرباء وتكرير المياه لأصبحت تكاليف الطاقة والمواد الخام للصناعات المستخدمة للغاز الطبيعي عندنا اقل بحوالي الثلثين على الأقل. وذلك لعدم حاجتنا لتسيل الغاز الطبيعي وإلى نقله بالسفن المبردة وإنما نقله مباشرة بالأنابيب لمسافات قصيرة داخل الدولة في حالته الغازية بعد إنتاجه وفصل مكوناته، إلى مستخدميه في قطر دون حاجة لمعمل التبريد ولا لناقلات الغاز المبردة والتي تتطلبان استثمارات عالية تتعدى ثلثي استثمارات مشروع تصدير الغاز.

لذلك توجد ميزة نسبية مؤكدة لاستخدام الغاز الطبيعي في الصناعة الوطنية والإقليمية في الدول المنتجة للغاز، بدل تصديره مبردا. ومن هنا تمتعت صناعة صهر المعادن مثل الألومنيوم والحديد وصناعة البتر وكيماويات والأسمدة الكيماوية في الدول المنتجة للغاز الطبيعي بميزة نسبية مقارنة بإنتاجها في الدول التي تستورد الغاز المسال من أجل إنتاجها.

ولعل هذا الفهم للغاز الطبيعي وإدراك الميزة النسبية لاستخدامه حيث ينتج، كان من فوائد هذه الزيارة التي لفتت نظري لأهمية دراسة “الاستخدامات البديلة للغاز الطبيعي غير المصاحب في قطر" قبل الالتزام بتسييل الغاز من أجل تصديره وتحمل الاستثمارات الكبيرة اللازمة لمشروع تسيل الغاز من أجل تصديره. وسوف أعود في القسم التالي من هذا الفصل للحديث عن تطور موقفي وموقف إدارة التسويق من تصدير الغاز المسالLNG من قطر في ذلك الوقت.

******

في صباح اليوم السادس غادرنا اوساكا بالقطار إلى جزيرة كيوشو Kuyshu جنوب شرق اليابان حيث يوجد الكثير من مصانع صهر المعادن وبعض صناعات الطاقة ربما لبعد المنطقة عن الكثافة السكانية والخفوت النسبي لصوت المعارضة فيها ضد التلوث، إضافة لميل سلطات المنطقة لجذب الصناعات وتعزيز جهود التنمية الصناعية فيها. وقضينا ثلاث ليال سياحية وثلاثة أيام عمل منظم نزور كل يوم مصنعا أو أكثر وفي المساء نكون ضيوف من قمنا بزيارتهم على حمام بخار ساخن وعشاء وسهرة يابانية تقليدية.

اختار زملاؤنا فنادق يابانية تقليدية، فنادق لا يوجد فيها أسرة وإنما تكون الغرفة طوال النهار مكانا للجلوس على الأرض. وقبل النوم يأتي من يفرش لنا على الأرض أيضا لننام.

نذهب في الصباح بعد الإفطار في جولة للمصانع. ونزور واحدا قبل الغداء والأخر بعد الغداء. وحوالي الساعة السادسة نعود للفندق ليلبس كل منا لباس السباحة والكيمونو ونذهب إلى فضاء مفتوح تتدفق فيه ينابيع مياه معدنية ساخنة يتصاعد منها البخار بكثافة حتى لا يرى المستحم من حوله من الناس إلى أن يصطدم بهم مطلقا للخيال عنانه.

نستحم في عز برد الشتاء في فضاء خارجي دون أن نشعر به بسبب سخونة ماء النبع في مكان مفتوح لا سقف له سوى السماء والمطر ينهمر علينا في كثير من الأحيان. وبعد ساعة نخرج من بحيرات صغيرة Lagoon ولا أقول برك سباحة مسرعين إلى غرفنا كي نعود بعد ساعة بكيمونات السهرة اليابانية من أجل العشاء الذي تخدمنا فيه فتيات الغيشا يعتنين براحتنا ويقدمن لنا الطعام ويعزفن ويغنين وأحيانا يرقصن رقصا يابانيا محترما حتى تنتهي السهرة اليابانية المدفوعة على حساب العلاقات العامة للشركات المضيفة. وهي التي يتفنن اليابانيون في اغتنامها من أجل راحتهم إلى جانب كرم الضيافة عندما يأتي إليهم ضيوف يسعون لإقامة علاقات تجارية معهم.

في مساء اليوم التاسع وبعد قضاء ثلاثة أيام وثلاث ليال نزور خلال النهار المصانع ونتحدث مع القائمين عليها ونستمع إلى احتياجاتهم ونشرح لهم إمكانيات تصدير الغاز من حقل الشمال الضخم للغاز الطبيعي غير المصاحب في قطر لفترة زمنية طويلة. كما كان زملاؤنا اليابانيون في الوفد يسهبون في شرح ميزات استخدام الغاز الطبيعي بدل غيره من مصادر الطاقة في المصانع التي نزورها لقلة ما يحدثه الغاز الخفيف النظيف من تآكل وتلوث وانخفاض في تكاليف الصيانة وقصر مدتها. وهنا عرفت أن زملاءنا اليابانيين من شركة شل اليابان مهندسون يعتمد عليهم في تسويق السلع التي تحتاج إلى معرفة فنية تقنع الزبون بأفضليتها له وليسوا مجرد مختصين في التسويق التجاري كما كنت أعتقد.

******

بدأنا رحلتنا الرسمية الأخيرة من جزيرة كيوشو على ظهر سفينة صغيرة نسبيا فيها تسهيلات للنوم تأخذنا طوال الليل عبر بحر اليابان الداخلي Inland Sea الذي يمر من الغرب محاذيا لجزيرة شيكوكو Shikoku وساحل أوساكا حتى مينا كوبيه Kobe حيث يقع مصنع "كوبيه ستيل" الشريك معنا في قطر في مصنع الحديد والصلب. نراقب من على ظهر السفينة المناطق الممتدة شرق جنوب اليابان لأخذ انطباع عن اتساع المنطقة التي سوف يصدر إليها الغاز المسال من قطر بشكل رئيسي ولإدراك كثافتها السكانية وحيويتها برؤية السواحل العامر الممتد لمسافة مسير حوالي 20 ساعة بالسفينة. نشاهد هذه المناظر بالعين المجردة في وقت النهار وبمراقبة الإنارة الكثيفة الممتدة شرق شمال مسارنا في الليل.

قضينا ليلة جميلة على ظهر السفينة نتابع ما نطوف به ونتحدث لبعض عرب وانجليز ويابانيين بلغة الفريق الواحد الذي عززت أواصر العلاقة بين أطرافه رحلة عمل جاد وسياحة ممتعة مقيمين رحلتنا وما بداء لنا من استعداد اليابان لاستقبال الغاز المسال من قطر.

تعرفنا على طاقم السفينة وتعشينا في مطعمها وكان مسؤول المطعم يحتفظ بدمى عربية بعضها للبدو العرب مختبئين في براميل نفط يظهرون لك عندما تفتح البرميل شاهرين سيوفهم. فنضحك ويضحكون ويترجم الزملاء ما قالوا لنا من كلمات الترحيب أما الانحناءات فنعرفها دون ترجمة.

نمنا في السفينة بضع ساعات وأفقنا صباح اليوم العاشر مبكرين مع شروق الشمس لنتابع رؤيتنا لما نشهده من حركة بحرية ونراه من عمران على سواحل بحر اليابان الداخلي. وصلنا حوالي الساعة العاشرة صباحا مدينة كوبيه الواقعة في نفس الجزيرة التي تقع فيها هيروشيما التي إصابتها إحدى القنبلتين الذريتين منذ حوالي ثلاثون عام آن ذاك وأعيد أعمارهما وإن ما زالت ذكريات اليابانيين عن شبيه يوم القيامة ما تزال حاضرة في الذهن إن لم تكن على اللسان. قمنا بجولة سياحية في المدينة زرنا خلالها نصبا تذكاريا ومتحفا لضحايا القنبلة الأميركية المدمرة وبعد الغداء غادرنا في رحلة سياحية ختامية لزيارة كيوتو ونارا العاصمتين الإمبراطوريتين التاريخيتين.

******

وصلنا مدينة كيوتو Kyoto في المساء وبعد استراحة قصيرة من عناء السفر بدأنا الزيارة بحضور مسرحية يابانية تقليدية قام فيها ممثلون مزينون بالمكياج الكثيف يلبسون ثيابا زاهية مزركشة يغلب عليها اللون الأحمر والأزرق الغامق، بأداء مسرحية لم نعرف مضمونها إلا بقدر ما قدمت لنا الورقة المترجمة إلى الإنجليزية من شرح موجز وكان ذلك كافيا لنا نحن غير المختصين لنتعرف على جانب مهم من الثقافة اليابانية متمثلة في المسرح وهو أبو الفنون كما يقال. ونتمتع بفن التمثيل الياباني التقليدي الذي يمثل مسرح كابوكي في طوكيو نموذجه الأرقى المعروف.

في اليوم الحادي عشر بدأنا رحلتنا السياحية في مدينة كيوتو فزرنا معابدها ومعالمها ومبانيها التاريخية المبنية من الخشب. وكانت زيارتنا لنماذج من الحدائق اليابانية التي يقدم فيها الشاي التقليدي من ألطف الزيارات التي تظهر مدى اهتمام اليابانيين بالتنسيق والرقة والجمال في طقوسهم ألاجتماعية ومنها شرب الشاي وتنسيق الحدائق.

وبعد الظهر قمنا بزيارة مدينة نارا Nara العاصمة الإمبراطورية الاقدم واستمعنا لشرح واف عن تاريخ اليابان والحكم الإمبراطوري فيها وطبقاتها الاجتماعية قبل إصلاح عصر ميجي وبعده، حيث تحولت طبقة الساموراي من نبلاء محاربين إقطاعيين إلى منظمين صناعيين Entrepreneurs يقودون جهود اليابان في التصنيع بعد أن ألغيت امتيازاتهم التقليدية وفتح لهم المجال لقيادة يابان المستقبل - يابان الصناعة وتجارة التصدير والمؤسسات العسكرية القادرة على ردع عدوان المنافسين لدور اليابان الحديثة التي لم يتم الانتصار على إرادتها إلا بالقنابل الذرية بعد أن ردت اليابان العدوان عليها بالعدوان على القوى العظمى بريطانيا العجوز في مستعمراتها في شرق آسيا وأميركا في عقر دارها في معركة بيرل هاربر Pearl Harbor في جزر هاواي.

بعد قضاء ليلة ثانية في كيوتو غادرنا في صباح اليوم الثالث عشر لزيارتنا اليابان من كيوتو إلى طوكيو حيث قضينا يومين آخرين. تسوقنا في متاجر اليابان ومحلاتها الكبيرة ذات الطوابق والدوائر العديدة وتعرفنا على عمليات إنتاج اللؤلؤ الصناعي الذي كان أحد أسباب انهيار صناعة الغوص وتصدير اللؤلؤ الطبيعي من الخليج العربي منذ عام 1926 إلى الآن.

كما قمنا بزيارة الحمام الياباني العام الذي يهرع إليه الرجال بعد عناء يوم عمل جاد ومضنٍ قبل الرجوع إلى بيوتهم يقضون فيه ساعات يرتاحون ويتأملون ويحلقون ذقونهم ويأخذون حماما يابانيا كامل يبدأ بالرشاش والساونا والماء المثلج ثم يمر الزبون بعملية غسل خشن بخرطوم الماء والليف والصابون وهو على سرير نقال يعاملونه كأنه سيارة تدخل مغسلة ومن ثم يذهب إلى غرفة التدليك لتلقي نصيبه من تدليك يفكك عقد الجسم ويزيل التعب ويخفف ضغوط الحياة والعمل. وما كان لنا أن نترك اليابان قبل أن نزور الحمام الياباني هذا ما اقترحه علينا رفاقنا الانجليز وهذا ما قمنا به في صحبتهم. وكانت تلك أول مرة أٍعرف فيها فوائد التدليك المهني وقدرته على تخفيف ضغوط العمل وتعب جسم العاملين بجد.

******

بعد خمسة عشر يوما من زيارتنا لليابان غادرنا نحن الأربعة أعضاء لجنة تسير قطر غاز طوكيو إلى سلطنة بروناي لزيارة معمل الغاز المسال الذي تملكه وتديره شركة شل لنطلع على الطبيعة على معمل التسييل وطريقة شحن ناقلات الغاز.

وصلنا بندر سيرا عاصمة بروناي بعد الظهر وركبنا سيارة مرت بنا على العاصمة وهي في ذلك الوقت على ما أذكر عبارة عن مبان تقليدية قديمة من الخشب والصفيح ليس فيها من المباني الإسمنتية الحديثة على ما أظن سوى قصر السلطان والمسجد وكأنك تزور مدينة لا تمت للدول المصدرة للنفط والغاز بصلة ولا حتى لبقية مدن شرق آسيا الأكثر فقرا. لم نتوقف في المدينة ولم نفكر في قضاء ليلة فيها فليس هناك ما يستحق المكوث حسب رأي مرافقينا.

أخذنا طريقا ضيقا من مسارين متعاكسين في طريقنا إلى بنغا في إقليم بيليت وهو المقاطعة التي يوجد فيها مركز شركة شل ومعمل تسيل الغاز وميناء التصدير وصناعة استخراج الغاز والنفط. الطريق ضيق ولكن كثافة المرور فيه قليلة وهو طريق يقطع غابات طبيعية ممطرة رطبة وبعض السهول. ولكننا لا نرى زراعة حديثة أو مدنا أو نشاطا صناعيا أو عمرانيا وكأن بروناي جزيرة غير مأهولة!

تعجبت أشد العجب من حال هذه المحمية البريطانية التي تستحوذ عليها شركة شل، المصدرة للنفط والغاز منذ عام 1913 منها والتي تبلغ أرصدة سلطانها الشخصية مئات الملايين من الجنيهات الإسترلينية آنذاك دون أن يترك النفط وعائداته على أرضها أثرا أو دليلا على نعمة النفط والحداثة. هذا على الرغم من أن ثروة سلطان بروناي تناهز ثروات بعض حكام الخليج العربي الأمر الذي جعله بتشجيع من بريطانيا يرفض الدخول في اتحاد ماليزيا عندما تم تأسيسه في خمسينيات القرن العشرين.

لم يستثمر السلطان عائدات النفط في تنمية زراعية بالرغم من كثافة الأمطار وجودة التربة ولا في تطوير أنشطة سياحية ولم تساهم الموارد النفطية في قيام صناعة فيه بل ظلت عائدات الحكومة من النفط استثمارات شخصية للسلطان في بريطانيا.

وهنا بدأ يتأكد لي أن التنمية المستدامة تتوقف على البشر وحسن الإدارة والقيادة السياسية التي تحدد الخيارات وتتخذ القرارات العامة ولا تتوقف فقط على إمكانيات التمويل ولا على وجود الموارد الطبيعية من ماء وأرض صالحة للزراعة وموارد طبيعية مثل النفط والغاز والمعادن.

وحالة اليابان بعد التدمير الذي أصابها في الحرب العالمية الثانية تؤكد أن التنمية المستدامة تتوقف بالدرجة الأولى على وجود إرادة التنمية وقيام إدارة التنمية المعبرة عن تلك الإرادة في اليابان. وهذا مفقود عندنا في الخليج كما هو مفقود في بروناي بدرجة أكبر بالرغم من وجود موارد زراعية وإمكانيات سياحية وصناعية يمكن تطويرها.

ولعل وجود الحماية البريطانية كان له دور أيضا في تشجيع الحكام في بروناي وإمارات الخليج العربي لما يشعرون به من ضمان لاستمرار سلطانهم طالما كانوا يفعلون بما يأمر به الحامي لنظم حكمهم. ولهم في مقابل تلك التبعية بأن يعتبروا عائدات النفط أو جزءا معتبرا منها دخلا شخصيا لهم ضاربين بحرمة المال العام عرض الحائط، ضامنين في نفس الوقت عدم تعرض مؤسسات مكافحة الفساد العالمية لسطوتهم على المال العام الذي يقع في طبقة الفساد الكبير مقارنة بالفساد الصغير الي يقوم به الفاسدين من الموظفين والتجار ورجال الاعمال من رشوة يأخذوها او رشوة يدفعونها لتحيق مصالح غير مشروعة.

******

وصلنا بنغا مقر تسيل الغاز وميناء تصدير الغاز في بروناي وفوجئت بوجود ناصر بن عبد الله النعيمي في استقبالنا مع كبار موظفي شركة شل هناك. وناصر رحمه الله صديق عزيز وجار كريم لم أكن قد رأيته منذ سنوات بسبب تقاطع سفر كل منا خلال السنوات الأخيرة للدراسة. وقد درس ناصر في بريطانيا وحصل على دبلوم الدراسات العليا في الهندسة الميكانيكية والتحق بشركة شل وتم توجيهه للعمل في حقل الشمال للغاز الطبيعي خلال فترة التنقيب والاستكشاف. ومع تطور فكرة مشروع تسيل الغاز في قطر انتدبته شركة شل قطر إلى شركة شل بروناي للعمل في مشروع تسيل الغاز هناك.

أقمنا في سكن وفرته شركة شل لنا فلا يوجد فنادق أو مدينة لنقيم فيها هناك. وفي صباح اليوم التالي بدأنا زيارتنا لمعمل تسيل الغاز وميناء التصدير وصعدنا على ظهر ناقلة غاز مسال لنشاهد عملية تزويد السفينة بالغاز المبرد والمضغوط تحت إجراءات سلامة مشددة. وكان الغداء فرصة لنا لنسمع من القائمين على معمل التسييل وميناء التصدير المشكلات التي يواجهونها وكيف تمكنوا من حلها في ضوء خبرة شركة شل العالمية في صناعة تسيل الغاز ونقله. وذكر لنا المسؤولون عن مختلف عمليات إنتاج الغاز وفصله وتسيله وشحنه كيف أن كلا منهم يتلقى تقريرا بالفاكس صباح كل يوم من المركز الرئيسي لشركة شل يعلمه بأي مشكلة تحدث في صناعة الغاز في العالم وكيف تم حلها وما ترتب علي فهمها من تغير في إجراءات إنتاج الغاز وتسيله ونقله وصيانة منشآته.

وقد سميت هذا التواصل التقني في شركات النفط "الحبل السري" للصناعة. وهو يتوفر للشركات الكبيرة المتقدمة تقنيا التي تملك قدرة على البحث والتطوير من أجل تزويد شركاتها العاملة في إنحاء العلم بكل معرفة أو تجربة جديدة مما يجعل عمليات الشركات التابعة لها متصلة بكل جديد وسباقة في توظيف المعرفة التقنية الأمر الذي ينعكس إيجابا على سلامة عملياتها وتكاليف إنتاجها وتعزيز جهود التنمية والتطوير فيها بشكل منافس لبقية شركات النفط.

وقد كانت فكرة الحبل السري الذي يغذي كافة عمليات شركات النفط الأجنبية العاملة لدينا بالمعرفة التقنية أولا بأول ولا يتوفر لهذه الشركات إذا انتقلت لملكية وإدارة وطنية حكومية من بين ما شغلني عندما استردت حكومة قطر بقية حصة شركات النفط الأجنبية في قطر ووضعتها تحت إدارة الهيئة القطرية لإنتاج البترول التي أصبحتُ نائبا لرئيس مجلس إدارتها، كما كانت الفكرة أحد محاور المحاضرة التي ألقيتها في قطر في الموسم الثقافي لوزارة التربية والتعليم حول متغيرات صناعة النفط عام 1977. (وسأعود إليها فيما بعد).

في المساء دعاني الأخ ناصر النعيمي للعشاء في منزله ومع أسرته الكريمة وأطفاله الذين يقيمون معه هناك، وقد كبروا اليوم وأصبح بعضهم استاذا في الجامعة كما سمعت. وقد كانت تلك الدعوة فرصة طيبة لي أن أعرف من أخي ناصر عن بروناي وعمليات تسيل الغاز في بروناي ما لم يقله لنا المسؤولون في الصباح.

وبعد نوم بضع ساعات نهضنا في الصباح الباكر استعدادا للسفر إلى الدوحة عن طريق سنغافورة.

 

 

(2-1) زيارة لجنة تسيير قطر غاز لحوض بناء ناقلات الغاز في مدينة اوساكا 1975 م .

 

 

(2-2) وفد قطر غاز على سطح السفينة في البحر الداخلي في اليابان 1975 م .

 

 
 

(2-3) الدكتور عرابي و انا في زيارة معبد بمدينة كيوتو 1975م .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

(2-4) وفد قطر غاز في زيارة مدينة نارا التاريخية في اليابان 1975 م .

 

 

 

2-2 جدوى تصدير الغاز المسال LNG من قطر

 

 

أثارت زيارة اليابان لدي تساؤلات حول جدوى تصدير الغاز المسال LNG آنذاك، وفقا لدراسة الجدوى التي أعدتها شركة شل لحساب شركة قطر غاز. كما طرحَت عليّ كمدير لإدارة التسويق والنقل في المؤسسة العامة القطرية للبترول أهمية القيام بدراسة الاقتصاديات البديلة لاستخدامات غاز حقل الشمل قبل الالتزام بتصدير الغاز المسال إلى اليابان أو غيرها من حقل الشمال.

******

بدأت أهتم بعد عودتي من اليابان بالغاز الطبيعي قدر اهتمامي بالزيت الخام فأخذت أطرح على نفسي الأسئلة الواجب طرحها لتحقيق الاستفادة الاقتصادية والصناعية الممكنة لقطر من الغاز الطبيعي غير المصاحب في حقل الشمال وكذلك ما يجب علينا في إدارة التسويق والنقل الإجابة عنه من تساؤلات حول مشروع "قطر غاز" لتصدير الغاز المسال إلى اليابان.

فاتحت زملائي في إدارة التسويق حول أهمية القيام بدراسة الفرص الاستثمارية المتاحة للاستفادة من الغاز الطبيعي غير المصاحب في قطر. وفي الوقت ذاته بدأت اقرأ دراسة الجدوى الأولية المعدة من قبل شركة شل لتصدير الغاز المسال إلى اليابان وأقيّمها بمساعدة مختصين من زملائي في إدارة التسويق والنقل.

اتضح لي مبدئيا أن دراسة شل أو بالأحرى اقتراحها لتصدير الغاز المسال من قطر إلى اليابان اتجهت إلى تكبير حجم مشروع تسييل الغاز وتوسعت في مجال استثماراته دون ضرورة، لمصلحتها وعلى حساب مصلحة حكومة قطر المالكة للغاز في باطن الأرض.

وذلك عندما اعتبرت الدراسة أن مرحلة مشروع أنتاج الغاز وما يخرج معه من مكثفات Condensate (C5 Plus) ومرحلة تسيل الغاز وتسهيلات تصديره وكذلك مرحلة نقله إلى اليابان بأسطول ناقلات الغاز باهظة الثمن متدنية العائد على الاستثمار، مشروعا استثماريا واحدا، تديره وتملكه شركة شل بالاشتراك مع حكومة قطر في كل نشاطات المشروع.

الأمر الذي أدى إلى تدني العائد على استثمار المشروع الواسع المقترح بشكل لا يبرر للبلد المالك للغاز الطبيعي غير المصاحب تصديره عند مستويات الأسعار السائدة آنذاك. كما كان الاستثمار المقدر لكل مراحل المشروع - إنتاجا وتسيلا وناقلات – ضخما بمقاييس ذلك الوقت فقد بلغ حوالي ستة مليارات دولار لإنتاج وشحن 6 ملايين طن من الغاز المسال LNG يتم اقتراض معظمها بضمانة المشروع وضمانات أخرى يقدمها الشركاء. وقد تكون هناك حاجة لتقديم ضمانات إضافية من حكومة قطر.

وقد تبين لي أثناء تقيم دراسة الجدوى التي اعدتها شركة شل أن دراسة الجدوى الأولية هذه قد أعدتها شركة شل بعد أن حددت الفروض التي تقوم عليها دراسة الجدوى تلك بشكل منفرد دون مشاركة تذكر من قطر، وكأن الدراسة اقتراح منها اعتمدت فيه على الفرضيات التي تجعل من مجمل الاستثمار الضخم طويل المدى ذو التكلفة الكبيرة البالغة 6 مليارات دولار مشروعا رابحا بالنسبة لها كمستثمر وبائع للتقنية والخدمات الفنية والإدارية للمشروع. هذا إضافة إلى تأكيد مكانة شركة شل وريادتها في مجال تسيل الغاز وتصديره على المستوى العالمي.

ولذلك فإن دراسة شركة شل لم تأخذ في الاعتبار مصالح حكومة قطر كمالك للغاز والمكثفات في باطن الأرض ولم تضع للغاز الطبيعي والمكثفات المستخرجة معه في باطن الأرض سعرا اقتصاديا، وإنما اعتبرته هبة مجانية لشركة قطر غاز. وكذلك لم تأخذ دراسة الجدوى أي اعتبار للبدائل الاقتصادية الأخرى المتاحة لاستخدام لغاز في ذلك الوقت، ولا في المستقبل.

وعلى سبيل المثال لاحظت ما يلي:

أولا: الدراسة لم تضع سعرا للغاز الطبيعي والنفتا وبقية المكثفات المصاحبة له في باطن الأرض يتم دفعه لحكومة قطر باعتبارها المالك للموارد الطبيعية.

وثانيا: الدراسة افترضت أن تطوير وإنتاج الغاز الطبيعي من حقل الشمال من حق شركة قطر غاز وأعطتها مقابل ذلك حق بيع المكثفات التي تباع بأسعار النفط الخام بما يكفي لتغطية تكاليف تطوير وإنتاج حقل الغاز، وتحقيق إضافة لذلك أرباحا عالية توظف لدعم تكاليف ناقلات الغاز المبرد المضغوط عالية القيمة متدنية العائد. وكان من الأفضل لحكومة قطر أن تكون مرحلة تطوير الحقل وإنتاج الغاز الطبيعي منه من مسؤولية المؤسسة العامة القطرية للبترول التي تصبح هي المنتجة للغاز الطبيعي من حقل الشمال، لتزويد مصنع التسييل بحاجته من الغز الطبيعي بعد فصل المكثفات عنه. كما تنتج المؤسسة الغاز الطبيعي من حقل الشمال لتلبية الاحتياجات والاستخدامات المحلية الأخرى مستفيدة في ذلك من بيع المكثفات لحسابها بسعر النفط الخام وكذلك فصل سوائل الغاز LPG وغاز الليثين C2 لاستخدامهما في صناعة البتر وكيماويات والاستهلاك المحلي والتصدير بأسعار أفضل من سعر الغاز المسال. وبعد ذلك تبيع المؤسسة لقطر غاز ما تحتاجه من غاز الميثان الذي يشكل حوالي 70% من حجم الغاز المنتج بكل مركباته من أجل تسيله وتصديره لليابان.

وثالثا: افترضت الدراسة أن تكاليف شراء وتشغيل أسطول ناقلات الغاز الباهظة الثمن هي جزء لا يتجزأ من التكلفة العامة لمشروع تصدير الغاز المسال. ولذلك افترضت أن العائد على الاستثمار لناقلات الغاز هو نفس العائد على الاستثمار في نشاط أنتاج الغاز وفي نشاط تسيله. والحقيقة أن العائد على استثمارات أسطول ناقلات النفط والغاز المسال هو في العادة اقل من ذلك بكثير وفقا لمعدلات عائد الاستثمار في أنشطة ناقلات النفط والغاز. وكان يمكن للدراسة أن تفصل نشاط نقل الغاز المسال عن نشاط تسيل الغاز. وفي هذه الحالة يتحمل المستورد مسؤولية شراء وتشغيل ناقلات الغاز، وينقل الغاز المسال من قطر على أسطول سفنه. ويمكن لشركة شل أن تدخل شريكا مع المستورد في شركة لنقل الغاز المسال كما هي شريك مع المصدر في مشروع تسييل الغاز.

ورابعا: لاحظت أن الدراسة قد افترضت أن سعر تصدير الغاز المسال من قطر سيكون قريبا من سعر تصدير الغاز المسال من أبو ظبي في ذلك الوقت من أجل إغراء اليابانيين باستيراد الغاز القطري. والحقيقة أن هناك فرق بين ظروف تسعير الغاز المسال من أبو ظبي وما يجب أن يكون عليه سعر الغاز المسال المستورد من قطر. فالغاز المسال المصدّر من أبو ظبي، مصدره الغاز الطبيعي المصاحب الذي ينتج بالضرورة مع أنتاج النفط في الحقول البحرية حول جزيرة داس. وقد كان ذلك الغاز يحرق في عرض البحر في أبو ظبي بسبب انه ينتج بالضرورة مع الزيت الخام ولم تكن له حاجة أو قيمة في أبو ظبي في ستينيات القرن العشرين ولا يمكن تأجيل إنتاجه بحكم ارتباط إنتاجه بإنتاج الزيت، عندما بدأت فكرة تصدير الغاز المسال إلى اليابان في منتصف ستينيات القرن العشرين.

أما الغاز الطبيعي من حقل الشمال فهو غاز غير مصاحب لإنتاج النفط وإنما ينتج بغرض تسيله وتصديره لليابان وبذلك يمكن تأجيل إنتاجه حتى تصل مستويات أسعاره إلى مستويات مرضية إن لم تكن أسعار الطاقة آنذاك تبرر اقتصاديا تسيل الغاز وتصديره إلى اليابان. وجدير بالذكر أن سعر الغاز المسال المصدر من أبو ظبي كان قد تم تحديد سعره الأساسي عندما كان سعر برميل النفط حوالي دولارين وزاد بعد ذلك وفقا لما اتفق عليه من معدلات الزيادة بينما سيتم التعاقد على سعر الغاز المسال من قطر في منتصف سبعينيات القرن العشرين عندما تخطت أسعار النفط 13 دولار للبرميل.

******

بعد أن توصلت لتلك الملاحظات الأولية على دراسة الجدوى التي أعدتها شركة شل لمشروع تسيل وتصدير الغاز الطبيعي من قطر بمساعدة زملائي من مختلف التخصصات في إدارة التسويق عرضت ما توصلت إليه من ملاحظات على الدكتور محمد عرابي زميلي في رحلة اليابان والعضو الثاني الممثل للمؤسسة في لجنة تسيير قطر غاز. ووجدت منه موافقة مبدئية على الملاحظات التي أبديتها وطلب مني مزيدا من الوقت لقراءة دراسة الجدوى ألأولية والعودة لمناقشتها معي.

كذلك أطلعت سمو الأمير في أحد مقابلاته لي على الملاحظات الأولية التي خرجت بها من زيارة اليابان ومن قراءة دراسة الجدوى الأولية المقدمة من شركة شل لتصدير الغاز المسال من قطر إلى اليابان وقلت له إنني أتشاور مع الدكتور عرابي زميلي في لجنة تسيير قطر غاز وربما نناقش شركة شل في الدراسة التي قدمتها كي نفهم أسباب إجراءها على ما قامت عليه من فروض.

شجعني سمو الأمير على الاستمرار في الدراسة والتأكد من الملاحظات التي توصلت إليها والنظر فيما إذا كانت هناك حاجة لتعديل الفروض التي قامت عليها الدراسة لتحسين اقتصاديات المشروع وزيادة عائدات قطر منه. وقال: لا بأس من مناقشة شركة شل من أجل تعديل دراسة الجدوى بما يحقق مصلحة قطر.

سعدت باستجابة الأمير المشجعة وطلبت موعدا مع وزير المالية والنفط رئيس مجلس إدارة المؤسسة العامة القطرية للبترول. وعندما أبديت ملاحظاتي له شجعني هو أيضا على الاستمرار في الدراسة ومناقشة القائمين بدراسة شركة شل.

بدأنا في إدارة التسويق وبالتعاون مع الدكتور عرابي وبعض الزملاء في المؤسسة العامة القطرية للبترول مناقشة الفرضيات التي تحتاج إلى تعديل ثم اجتمعنا مع القائمين بالدراسة وأجرينا حوارا معهم حول الفرضيات التي قامت عليها الدراسة وطلبنا معرفة تأثير تعديلها على اقتصاديات المشروع بالنسبة لقطر. وعلى ما اذكر تضمنت ملاحظاتنا ما يلي:

أولا أن يكون تطوير وإنتاج الغاز الطبيعي من حقل الشمال هو مهمة المؤسسة العامة القطرية للبترول تقوم به من خلال الشركات العاملة في الحقول البحرية. ومن ثم تبيع المؤسسة لقطر غاز، غاز الميثان الذي يشكل حوالي 70% من مكونات الغاز الطبيعي غير المصاحب في حقل الشمال. أما بالنسبة لسعر بيع غاز الميثان فيمكن أن يكون سعرا تشجيعيا يحدد بعقد طويل المدى بين المؤسسة وشركة قطر غاز.

ثانيا فصل نشاط أسطول ناقلات الغاز عن شركة تسيل الغاز وتسهيلات التخزين والشحن في قطر. ويمكن إعداد دراسة جدوى منفردة لشركة ناقلات الغاز ومن الأفضل أن يكون المستورد الرئيسي في اليابان شريكا في شركة ناقلات الغاز إلى جانب شركة شل والمؤسسة القطرية العامة للبترول.

ثالثا تحسين اقتصاديات المشروع من حيث رفع سعر الغاز المسال المصدر لليابان باعتباره طاقة نظيفة تحتاجها اليابان لتخفيف التلوث المنبعث من الصناعات كثيفة الاستخدام للفحم أو المنتجات النفطية وكذلك النظر في بقية أوجه التكاليف بما يبرر لقطر الارتباط بتصدير الغاز المسال إلى اليابان لمدة 25 سنة قادمة.

******

بعد مدة من طلب إعادة دراسة الجدوى الاقتصادية دعتنا شركة شل للسفر إلى لندن ولاهاي في هولندا لمناقشة التعديلات التي يمكن إدخالها على دراسة الجدوى. ذهبنا الدكتور عرابي وأنا على ما أذكر والتقينا في لندن بمختصين في تسويق الغاز من شركة شل العالمية ومنهم زميلان شاركانا في زيارة اليابان الاستطلاعية. ومن ثم ذهبنا معهما إلى لاهاي وهي المركز التقني لشركة شل في هولندا.

بعد تدارس الأمر مع ممثلي شركة شل اتضح لنا أن اقتصاديات تصدير الغاز المسال من قطر حدّية بالنسبة لشركة شل أيضا كما سبقت الإشارة نتيجة تدني الأسعار المعروضة لشرائه في اليابان ومن الضروري أن يكون المشروع بالنسبة لشركة شل متكاملا ومدعوما من حكومة قطر بالتنازل عن قيمة الغاز والنفتا في باطن الأرض لصالح المشروع المتكامل كي يستفيد من بيع المكثفات المصاحبة لإنتاج الغاز لصالحه من أجل تغطية تكاليف أسطول الناقلات ومعمل تسييل الغاز وتسهيلات التخزين والتصدير.

وقد أبلغونا أنهم استجابة لاقتراحنا سوف ينظرون في فصل سوائل الغاز LPG لبيعها من قطر مع المكثفات لصالح المشروع من أجل تحسين اقتصادياته. أما اقتراح إنشاء شركة ناقلات غاز مستقلة يكون المستورد الرئيسي للغاز المسال شريكا فيها فإنهم سينظرون فيه ولكنهم لا يعتقدون بإمكانية فصل شركة ناقلات الغاز عن مشروع التسييل، لضخامة الاستثمارات المطلوبة لناقلات الغاز والضمانات التي يتطلبها تمويلها الضخم.

انتظرنا وصول دراسة الجدوى المعدلة لنعرف ما أخذ ت به من التعديلات التي اقترحناها وما مدى تحسين اقتصاديات تصدير الغاز الطبيعي المصاحب من قطر إلى اليابان. وفي الوقت نفسه واصلنا في إدارة التسويق دراسة الفرص البديلة المتاحة لقطر من أجل الاستفادة من الغاز الطبيعي غير المصاحب من حقل الشمال.

كانت مقارنتنا في ادارة التسويق تقوم على بديلين: أحدهما اقتصاديات تصدير 6 مليون طن من الغاز المسال تحتاج إلى إنتاج 1،2 مليار قدم مكعب من الغاز الطبيعي يوميا يتم فصل المكثفات وبقية مركبات الغاز منها للاستخدام المحلي أو التصدير ويُسيّل منه الميثان فقط للتصدير إلى اليابان وذلك لتحسين اقتصاديات مشروع التسييل. والخيار الثاني إقامة مجمع للبتروكيماويات التي يمكن إنتاجها من مكونات الغاز الطبيعي غير المصاحب لإنتاج أسمدة كيماوية وإقامة مصنع بترو كيماويات ينتج غاز الأثيلين عماد الصناعات البتروكيماوية، ومن ثم بيع الفائض عن حاجة قطر من سوائل الغاز والمكثفات.

******

وصلتنا بعد فترة دراسة الجدوى الأولية المعدلة واجتمعنا بزملائنا في لجنة تسيير شركة قطر غاز فوجدنا أن الدراسة المعدلة استجابت فقط لمقترح فصل سوائل الغاز مع المكثفات وبيعهما لصالح مشروع التسييل ومن ثم تصدير غاز الميثان والإيثان بعد تسييلهما. كما أن الدراسة عدلت ميناء التصدير من رأس لفان إلى منطقة بحرية عميقة جنوب مصب تصدير النفط الخام في امسعيد - مكان الفندق الذي أقيم هناك فيما بعد جنوب سيلين – والذي كان يكلف 50 مليون دولار فقط مقابل ميناء راس لفان الذي كان يكلف 300 مليون دولار آنذاك. وبذلك تم توفير مبلغ 250 مليون دولار من أجمالي الاستثمارات البالغة 6 بلايين دولار.

ولم يتم تغيير أي شيء آخر لأن أي تغيير كان سيلحق الضرر باقتصاديات مشروع التسييل من وجهة نظر شركة شل ويجعله غير جذاب بالنسبة لها. وبذلك أكدت شركة شل أن اقتصاديات مشروع تسييل الغاز حدّية بالنسبة لنا ولهم أيضا في ضوء أسعار الغاز المسال المصدر لليابان آنذاك وليس هناك جدوى اقتصادية بالنسبة لها ما لم تدعم حكومة قطر المشروع بتنازلها عن ثمن الغاز الطبيعي غير المصاحب في باطن الأرض وثمن المكثفات التي يتم فصلها حال وصول الغاز إلى سطح الأرض وتباع لصالح مشروع التسييل بأسعار الزيت الخام.

وفي تقديري أن فكرة إقامة مشروع لتسيل الغاز غير المصاحب المنتج من حقل الشمال قد تبلورت لدى شركة شل منذ عام 1971 قبل أن تأول ملكية الحقل لحكومة قطر. وذلك عندما اكتشفت الشركة حقل الشمال وهي المالكة وقتها لاحتياطي حقل الشمال من الغاز بحكم امتيازها في المناطق البحرية قبل اتفاقيات المشاركة.

من هنا بحثت شركة شل عن أسرع طريقة لاستغلال حقل الشمال من وجهة نظرها كصاحبة امتياز محدد المدة الزمنية. وتوصلت- في ضوء مدة امتيازها المحدودة-إلى إقامة مشروع لتصدير الغاز المسال إلى اليابان بأسعار تنافس مصادر الطاقة البديلة للغاز المسال في اليابان آنذاك ولم تأخذ في الاعتبار اتفاقيات المشاركة في ملكية شركة شل قطر من قبل المؤسسة وما تلاها من استرداد قطر لعمليات شل قطر بالكامل وبالتالي تملّك المؤسسة لكامل احتياطي الحقول البحرية ومنها حقل غاز الشمال مما يرتب اعتبارات وطنية أخرى، كما يتيح لحكومة قطر مدى زمنيا أبعد من مدى امتياز شركة شل السابق محدود المدة، لاستغلال الغاز الطبيعي غير المصاحب من حقل الشمال من وجهة نظر المؤسسة العامة القطرية للبترول وحكومة قطر.

 

 

 

2-3 أفضل سبل استغلال الغاز الطبيعي غير المصاحب في قطر

 

 

اتضح لنا من دراسة شركة شل المعدلة لدراسة الجدوى الأولية لمشروع تسيل الغاز الطبيعي غير المصاحب المنتج من حقل الشمال في قطر وتصديره إلى اليابان، أن اقتصادياته حدّية في ضوء مستوى أسعار الزيت الخام المعلنة في ذلك الوقت والبالغة حوالي 12،5 دولار للبرميل.

 لذلك كان على قطر أن تتريث حتى تتحسن أسعار النفط أو أن يقبل اليابانيون دفع سعر أعلى يبرر تصدير الغاز السائل إليهم إن كانوا في حاجة لطاقة نظيفة تبرر دفع أسعار أساسية أعلى من السعر المعروض لشراء الغاز المسال من قطر آنذاك باعتبار أن الغاز طاقة نظيفة تساعد اليابان على حل مشكلة التلوث.

وأذكر أن قرار التريث قد اتخذناه بعد أن أطلعت وزير المالية والبترول رئيس مجلس إدارة المؤسسة القطرية العامة للبترول على مؤشرات دراسة الجدوى ألأولية المعدلة التي أظهرت أن مستوى الأسعار المعروضة دون المستوى المقبول من وجهة النظر القطرية. كما أن افتراض تقاضي سعر للغاز والنفتا في باطن الأرض من قبل دولة قطر سوف يجعل المشروع غير اقتصادي من وجهة نظر شل وهي شريكتنا في شركة "قطر غاز".

وفي إحدى مقابلات الأمير لي ذكرت له نتائج دراسة الجدوى الأولية المعدلة وما توصلنا له من حاجة للتريث بعد موافقة سموه حتى يصبح تصدير الغاز المسال مجديا اقتصاديا وفي مصلحة قطر في المدى البعيد. وقد أكد سمو الأمير ما سبق أن ذكره لي بأن ما يهمّه هو مصلحة قطر وليس هناك ضرورة للاستعجال.

******

 أبلغنا شركاءنا في قطر غاز برغبتنا في التريث لبعض الوقت حتى تتحسن اقتصاديات المشروع ويصبح من الممكن أن نتفاوض مع اليابانيين على سعر يحقق مصالح دولة قطر كمالك للغاز الطبيعي إلى جانب كونها شريكا في الاستثمار في شركة قطر غاز.

وهنا بدأت الضغوط من أجل الإسراع بالموافقة على مشروع التسييل. فما أن تقنع جهة منها بضرورة التريث في اتخاذ قرار تسيل الغاز من أجل تصديره لليابان إلا وتجد أشخاصا يحملون وجهات نظر أخرى تدعو لاتخاذ قرار بتنفيذ المشروع والبدء بدراسة الجدوى الاقتصادية الشاملة إضافة إلى البدء في بعض الأعمال التنفيذية مثل ميناء تصدير الغاز المسال جنوب مسيعيد قبل أن ترتفع الأسعار العالمية.

بدأنا في إدارة التسويق تحت هذا الضغط نعمل على أمرين: استكمال دراسة الخيارات البديلة لقطر لاستغلال الغاز الطبيعي غير المصاحب من حقل الشمال والتي شرعنا فيها في إدارة التسويق بالإمكانيات المتواضعة المتاحة لدينا. كما أخذت شخصيا أتعرف على الجدل العالمي الدائر حول تصدير الغاز الطبيعي من الاتحاد السوفيتي إلى بعض بلدان أوربا بالأنابيب وتصدير الغاز المسال من قطر وغيرها من الدول التي تملك احتياطي كبيرة من الغاز الطبيعي غير المصاحب.

علمت أن المنتدى الاقتصادي Economic Forum، الذي يتخذ من سويسرا مقرا له مهتم بموضوع صادرات الغاز والبلدان التي يمكنها أن تصدر الغاز الطبيعي إلى أوروبا واليابان وأن المنتدى ينظم ندوات في أكثر من بلد لمن هم في مواقع تنفيذية في الحكومات وصناعة النفط. فاتصلت بالمنتدى وحجزت لنفسي لحضور ندوتين عن الغاز إحداهما في ألمانيا والثانية في السويد.

حضرت ندوة ألمانيا، وعلى ما اذكر كان موضوعها يهتم - من منظور استراتيجي - بإمدادات الغاز المصدرة من الاتحاد السوفيتي إلى أوربا. وأثناء المناقشات جاء ذكر قطر كمصدر آمنٍ لاستيراد الغاز المسال منها إلى أوروبا بجانب الجزائر ونيجيريا. وكانت هذه أول مرة أعي فيها اهتمام الغرب عموما ووكالة الطاقة الدولية على وجه الخصوص بإحلال الغاز مكان الزيت ومشتقاته تطبيقا لاستراتيجيتها التي سبقت الإشارة إليها.

كما اتضحت لي ضغوط الدول المستهلكة للغاز لتطوير صناعة تسيل الغاز من أجل تصديره إذا تعذر نقله بالأنابيب من المناطق البعيدة التي تحتاج صادرات الغاز منها بالأنابيب إلى أن تمر عبر حدود دول عديدة. وقد ركزت مناقشات الندوة على الخطورة الاستراتيجية في اعتماد أوروبا على الغاز المصدر بالأنابيب من الاتحاد السوفيتي وضرورة البحث عن مصادر أخرى لاستيراد الغاز المسال من مناطق بعيدة إلى جانب المصادر الأوروبية الناشئة في بحر الشمال والنرويج.

وبعد عدة أشهر شاركت في ندوة أخرى عن الغاز الطبيعي في السويد كانت بعض موضوعاتها متقاربة مع موضوعات ندوة ألمانيا. وعلى ما أذكر كانت ندوة السويد مهتمة أيضا بالنظر في إنتاج أوروبا الغربية نفسها من الغاز الطبيعي في المستقبل.

فتحت الندوتان ذهني على الجدل العالمي الدائر حول إنتاج الغاز الطبيعي باعتباره المصدر الهام الذي سوف يساعد وكالة الطاقة الدولية على تخفيض حاجة الدول الأعضاء فيها لاستيراد الزيت الخام بشكل عام وتخفيض استيرادها من الزيت الخام المصدر من الدول الأعضاء في الأوبك خاصة.

كما أشارت الندوتان إلى الضغوط التي يمكن لقطر أن تواجهها من أجل تصدير الغاز الطبيعي المسال منها لتلبية احتياجات الشرق الأقصى واليابان خاصة وربما تصديره أيضا إلى أوربا لتقليل اعتمادها على الغاز الطبيعي المصدر إليها من الاتحاد السوفيتي بالأنابيب.

ولعلنا اليوم في حاجة لمراجعة الوثائق الانجليزية وغيرها لمعرفة بعض أوجه الضغوط السياسية التي تعرضت لها قطر لتسييل الغاز غير المصاحب المنتج من حقل الشمال وتصديره. وربما تكون متابعة الباحثين لوثائق زيارة السيدة مارغريت ثاتشر رئيسة وزراء بريطانيا لقطر في مطلع ثمانينيات القرن العشرين تفصح عن بعض تلك الضغوط، فقد أطلعت حسب ما أذكر على مراسلات بين مكتب رئيسة الوزراء البريطانية مع شركة شل قبيل زيارتها لقطر تشير إلى طرح موضوع تصدير الغاز من قطر للبحث عند زيارتها المرتقبة لقطر.

******

التقيت في ندوة ألمانيا برجل أعمال من دبي اسم عائلته كلداري على ما أذكر جاء يبحث عن فرص جديدة للاستثمار لتنويع أنشطته التي تتركز على الفنادق والسياحة. وكنت العربي الوحيد الذي جاء من قطاع النفط. ولم يحضر أحد من منظمة الأقطار العربية المنتجة للبترول (الأوابك AOPEC) ولا أنني تعرفت على أحد حضر من الأوبك OPEC للاطلاع على ما يدور حول الغاز الطبيعي من جدل عالمي سوف يؤثر على صادرات الأعضاء فيها من الزيت الخام.

كما تعرفت خلال زيارة فرنكفورت في ألمانيا وستوكهولم في السويد عام 1976 على هاتين المدينتين بالقدر الذي تسمح به ظروف مشاركتي في الندوتين. وأذكر أنني كنت في السويد خلال عطلة نهاية الأسبوع فنزلت المدينة أتفرج على معالمها. وعند زيارتي لإحدى ساحاتها العامة وجدت تجمعا كبيرا من الشباب السويدي يحملون لافتات كثيرة ويرددون ألهتافات فوقفت استمع لما يقولون دون أن افهم شيئا من هتافاتهم أو ما كتب على لافتاتهم. فسألت إحدى المشاركات عن موضوع الوقفة وماذا كتب على اللافتات وما يتم الهتاف به.

تحدثت لي الشابة باللغة الانجليزية وحرصت كعادة السويديين الحميدة على أن توضح لي ما يجري وتشرح لي ما تعانيه السويد من جمود نظامها السياسي وعدم القدرة على تغيير الحزب الحاكم عن طريق الانتخابات العامة بعد ممارسته السلطة سنوات طويلة جمد خلالها الوضع السياسي وانسدت آفاق التغيير وتداول السلطة لذلك – حسب رأي المحتجين - لا بد من وسيلة غير الانتخابات يتم بواسطتها تغير الحزب الحاكم أو الثورة عليه.

وقفت أتفرج على الوقفة الاحتجاجية حتى انفضت بهدوء وذهب كل مشارك لسبيله غابطا السويديين على مستوى حرية التعبير لديهم وعلى وعيهم السياسي بان جمود النخب الحاكمة وعدم تداول السلطة يعيق التطور الإنساني حتى ولو كان ذلك بحكم الممارسة الديمقراطية والانتخابات العامة النزيهة، فما بالك إن كان ذلك بدونهما كما هو الحال في الدول العربية؟

ولعل جمود النخب في الحكومات الوراثية المطلقة هو السبب الذي توصل من خلاله أبن خلدون إلى حتمية زوال دول السلالات الوراثية والعصبيات التي ترهلت بحكم الرفاهية وتوارث الحكم دون تجديد لمصادر النخب الحاكمة. وحسب تقديري فإن هذه هي السنّة أو القانون الطبيعي لا تنطبق على الدول الديمقراطية التي تتجدد فيها النخب الحاكمة دوريا وتتجدد معها أفكار التغيير المعبرة عن المصلحة العامة بحكم كون الشعب هو مصدر السلطات وهو الذي يفوض النخبة التي تحكم لمدة معينة بتحديد الخيارات واتخاذ القرارات العامة ويحاسبها على ما تفعل في الانتخابات الدورية التالية.

 كما أنني ألاحظ أيضا بأن هذه السنة يتخلص منها إلى حين، حكم بعض السلالات التي تحكم بشكل مطلق ولم تتحول بعد إلى ملكيات دستورية، إذا كان حكم تلك الملكيات المطلقة يتم تحت حماية دولة عظمى تضمن بقاء السلالة الحاكمة مهما بدأ زمن زوالها قد حل. وهذا ربما يكون سبب ما نلاحظه من عدم تأثر نظم الحكم الملكية العربية المطلقة بالاضطرابات التي حدثت بعد ما سمي " بالربيع العربي" واسميه التحركات من أجل الديمقراطية في الدول العربية، حيث بقيت صامدة في مواجهة الاحتجاجات الشعبية.

******

الأمر المهم الآخر الذي ركزنا عليه في إدارة التسويق والنقل هو كما سبقت الإشارة دراسة اقتصاديات الاستخدامات البديلة للغاز الطبيعي غير المصاحب في قطر. وقد قمنا بمقارنة بديل تصدير الغاز المسال LNG مع بديل مجمع للصناعات البتروكيماوية. واتضح من الدراسة الأولية التي قمنا بها أن مجمعا للصناعات البتروكيماوية للتصدير يستخدم كمية أقل من الغاز الطبيعي ويتطلب استثمارات أقل سوف يحقق عائدا أكبر لقطر على الاستثمار ويسمح بفرض سعر للغاز في باطن الأرض لصالح حكومة قطر ويحقق ارتباطات أكبر وأوسع بين الغاز الطبيعي غير المصاحب والاقتصاد القطري. كما يعزز خيار الصناعات البتروكيماوية المقترحة بدل تسيل الغاز وتصديره، الترابط بين قطاع انتاج الزيت والغاز وقطاع الصناعة التحويلية وتعزيز إمكانيات التنمية المستدامة في قطر. هذا إضافة إلى فوائد وروابط اقتصادية وتقنية واجتماعية أخرى تحققها البلاد من بديل الصناعات البتر وكيماوية مقارنة بمجمع لتصدير الغاز المسال.

عرضت نتائج دراسة إدارة التسويق على وزير النفط رئيس مجلس إدارة المؤسسة وعرضتها على سمو الأمير في إحدى المقابلات. وأذكر أنه طمأنني أنه لن يتخذ قرار تسيل الغاز إلا إذا تحسنت أسعاره وتأكدت مصلحة قطر فيه دون أن يوافقني بشكل صريح على الاهتمام بالبديل المقترح لمشروع تسيل الغاز وتصديره، ربما بسبب ما يشعر به من ضغط سياسي على قطر من أجل المضي في مشروع تسيل الغاز.

وحسب تقديري أن ذلك هو ما تم فعلا حتى عام 1990 فلم تجدي الضغوط التي مورست على قطر في اتخاذ الشيخ خليفة بن حمد قرارا بتصدير الغاز الطبيعي المسال في ضوء اقتصاديات تصديره الحدّية آنذاك ولكنه أيضا لم يتحمس لدراسة بديل الصناعات البتر وكيماوية للاستفادة من غاز الشمال.

******

لم أكتفِ بإرجاء الأمير اتخاذ قرار بتصدير الغاز المسال وتأنيه آنذاك وفكرت أن أواصل البحث حول البدائل الأخرى المتاحة لقطر. لذلك رأيت أن أعرض الدراسة التي قمنا بها في إدارة التسويق على جهة مستقلة للتأكد من سلامة الفرضيات التي قامت عليها والنتائج التي توصلت إليها تمهيدا للتركيز على دراسة إقامة مجمع للصناعات البتر وكيماوية.

وقد توصلنا في إدارة التسويق إلى أن البنك الدولي للأعمار هو الجهة المناسبة للقيام بتقييم الدراسة التي قمنا بها والنظر في سلامة الفرضيات التي قامت عليها وتقديم الاستشارة لنا في مواصلتها. فذهبت إلى الكويت واتصلت بعبد اللطيف الحمد مدير الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية الذي لم أكن قد تعرفت عليه بعد ولكنني عرفت كفاءته وحسن إدارته وصلته بالبنك الدولي بحكم رئاسته لصندوق الكويت للتنمية العربية عندما كنت أعد رسالة الدكتوراه.

استقبلني عبد اللطيف الحمد مشكورا بعد أن قدمني له أحد الأصدقاء واستمع لي وتعاطف مع فكرة الدراسة التي أريد أن أتأكد من سلامة نتائجها، ونصحني أن أتصل بأحد المديرين في البنك الدولي واسمه على ما أذكر الدكتور غسان. اتصلت بالأخ غسان ووعدني بالمرور علينا في قطر في إحدى زياراته للمنطقة للاطلاع بشكل أولي على الدراسة ومناقشة الزملاء الذين قاموا بكتابتها.

زارنا الدكتور غسان بعد مدة واجتمعنا معه وعرضنا عليه الدراسة والفرضيات التي قامت عليها والنتائج التي توصلت إليها فوجد أنها دراسة معقولة ويمكن تطويرها من قبل فريق متخصص في صناعة البتر وكيماويات في البنك الدولي.

اتصلت بوزير المالية والبترول رئيس مجلس إدارة المؤسسة وعرضت عليه أمر تكليف البنك الدولي بالقيام باستكمال الدراسة الأولية التي قمنا بها في أدارة التسويق وبعد مدة أخبرني وزير البترول أن سمو الأمير لا يرى حاجة لتكليف البنك الدولي القيام باستكمال الدراسة في الوقت الحاضر وهو مقتنع بنتائجها وليست هناك نية للموافقة على مشروع الغاز المسال في الوقت الحاضر.

هنا أدركت أن متخذي القرار تحت ضغوط مستمرة لاتخاذ قرار بتصدير الغاز غير المصاحب من حقل الشمال من أجل تقليل الحاجة للزيت في ميزان الطاقة العالمي وفقا لإستراتيجية وكالة الطاقة وأن متخذ القرار بالرغم من قناعته بعدم جدوى تصدير الغاز غير المصاحب في الوقت الحاضر إلا أنه يريد أن يحتفظ بحرية اتخاذ القرار أن لم يستطيع مقاومة الضغوط دون أن تكون هناك دراسة محرجة تشير إلى أن متخذ القرار قد اتخذ قراره تحت ضغط خارجي. وهذه مقاربة سياسية معقولة ضمن ظروف دول المنطقة. وبذلك توقفت جهود إدارة التسويق الرسمية وكان ذلك في أوائل عام 1978 قبل أن أتفرغ من عملي في قطاع النفط في قطر وألتحق بجامعة هارفارد كباحث ما بعد الدكتوراه في أواخر عام 1978.

******

أثناء تفرغي الدراسي لم أتوقف عن متابعة موضوع الخيارات المتاحة للدول التي لديها غاز طبيعي غير مصاحب بشكل عام وقطر بشكل خاص. وفي ضوء ارتفاع أسعار النفط في عام 1979 واقترابها من 30 دولارا للبرميل في مطلع عام 1980 بدأت أصوات لوبي تصدير الغاز المسال من قطر ترتفع وتلح على تنفيذ المشروع المشترك مع شركة شل لتسيل الغاز القطري وتصديره إلى اليابان. وكانت حجتهم أن الدراسة التي قمنا بها في إدارة التسويق صحيحة بالنسبة لأسعار عام 1977 التي كانت حوالي 13 دولارا أما بعد أن تضاعفت أسعار البترول في عام 1979 في أعقاب الثورة الإيرانية فإن اقتصاديات مشروع الغاز المسال تبرر القيام به الآن.

لذلك وجدت من الضروري أن أعيد شخصيا دراسة الخيارات المتاحة لقطر للاستفادة من الغاز غير المصاحب. فالمسألة الأهم عند اتخاذ قرار توجيه الموارد إلى استخدام دون آخر هي الجدوى الاقتصادية والاجتماعية والتنموية لكل من الاستخدامات المتاحة.

وفي أواخر عام 1981 نشرتُ دراسة علمية أكاديمية في مجلة "النفط والتعاون العربي" في العدد الثالث سنة 1980 الصادرة عن منظمة الأقطار العربية المنتجة للبترول بعنوان " اقتصاديات الاستخدامات البديلة للغاز الطبيعي غير المصاحب في الخليج العربي". وأعدت نشرها في كتاب "هموم النفط وقضايا التنمية" عام 1985.

وإذا كان مجال هذه المذكرات لا يسمح بذكر تفاصيل الدراسة (التي يمكن للمهتمين الرجوع إليها) فإن الدراسة قد أكدت أنه على الرغم من تضاعف أسعار النفط في أواخر عام 1979 عما كانت عليه في عام 1977 ألا أن خيار الاستفادة من الغاز الطبيعي المصاحب في قطر وغيرها من الدول التي تملك احتياطيا كبيرا من الغاز الطبيعي غير المصاحب ما زالت لصالح صناعة البتر وكيماويات مقارنة بتسييل الغاز من أجل تصديره. فقد كان العائد الإجمالي لكل ألف قدم مكعب يستخدم في تسيل الغاز يصل إلى 83 سنتا بينما كان العائد 189سنتا (دولار وتسعة وثمانون سنتا) في حالة إنتاج البتروكيماويات. كما كان العائد الصافي المحقق في قطر لكل ألف قدم مكعب من الغاز الطبيعي في حالة مجمع الغاز المسال يبلغ 43 سنتا فقط بينما كان العائد المحقق الصافي لكل ألف قدم مكعب من الغاز الطبيعي في حالة مجمع البتروكيماويات 149 سنتا (دولار وتسعة وأربعون سنتا).

وجدير بالذكر أن شركة شل، بعد أن يئست من محاولات تنفيذ مشروع الغاز المسال في قطر، انسحبت من المشروع وتم إلغاء شركة "قطر غاز". وبعد ذلك استمر الوضع على ما هو عليه، أي التريث في تنفيذ مشروعات تسيل الغاز ولكن دون القيام بدراسة مشروع مجمع البتروكيماويات البديل والأكثر جدوى اقتصادية وصناعية واجتماعية منه طوال ثمانينيات القرن العشرين.

ولعل التريث في تسيل الغاز دون الاتجاه لدراسة بديل الصناعات البتروكيماوية، هو الأمر الذي أتاح لمن يفضلون تصدير الغاز المسال من قطر على بديل إقامة صناعات بتروكيماوية وصناعات كثيفة استهلاك الطاقة عليه، هو الذي سهل العودة لخيار تسييل الغاز بعد أكثر من عقد من الزمن مرة اخرى في مطلع تسعينيات القرن الماضي وتلزيمه لشركات عالمية، أهمها شركات أمريكية كبرى، بشروط لا تختلف عن الشروط التي كانت شركة شل تطرحها، ومنها امتلاك مشروع تسيل الغاز الطبيعي لحق بيع المكثفات لصالحه دون دفع ثمن للغاز والمكثفات لحكومة قطر باعتبارها مالكة للغاز في باطن الارض. وهذا الوضع مازال مستمرا حتى اليوم، بالرغم من تزايد طاقة انتاج الغاز المسال في قطر من 6 مليون طن سنويا إلى 77 مليون طن كل عام.

******

وقد فوجئت بتلك العودة غير المتوقعة لخيار تسييل الغاز الطبيعي وتصديره من حقل الشمال حوالي عام 1992 بعد حوالي 15 عاما من تركي قطاع النفط، عندما علمت بأن هناك تحركات ومفاوضات مع شركات أمريكية كبرى وعالمية اخرى لإقامة مشروعات تسييل الغاز من أجل التصدير بشروط ليست أفضل مما طلبته شركة شل في السابق. هذا على الرغم من تراجع أسعار النفط آنذاك إلى حوالي نصف مستواها في عام 1981. وقد تناولت وقيمت تلك المشروعات في فصل خاص عن الخيارات البديلة للاستفادة من الغاز الطبيعي غير المصاحب في كتابي " تنمية للضياع: أم ضياع لفرص التنمية" الصادر عام 1996.

وجدير بالذكر أن المقالات النقدية للمفاوضات والاتفاقيات الجديدة لمشروعات تسيل الغاز في قطر التي حاولت نشرها لم يتم السماح بنشرها في قطر حتى أواخر عام 1995 عندما تولى الشيخ حمد بن خليفة زمام الحكم. وصدرت جريدة "الوطن" ونشرت المقالات الممنوع نشرها في العهد السابق لتأكيد ارتفاع سقف حرية التعبير إلى حين.

والطريف في الأمر أنني عندما زرت باريس في أواخر عام 1995 للقاء المرحوم الصديق رغيد الصلح في مدينة نيس جنوب فرنسا وتنسيق أنشطة مشروع دراسات الديمقراطية معه بعد أن رفع الحضر المفروض على سفري منذ عام 1992 اتصلت بالأخ عيسى بن غانم الكواري الذي كان يرافق الشيخ خليفة بن حمد في منفاه في جنوب فرنسا من أجل السلام عليه. وبعد السلام شكرني الأخ عيسى على المقالات التي نشرتها لي جريدة "الوطن" في قطر حول الغاز المسال فقلت للأخ عيسى وزير الإعلام السابق: هذه هي المقالات التي منعتم نشرها عندما كنتم في السلطة" فرد عليّ ضاحكا: "حتى وإحنا في المنفى لا نسلم من لسانك؟!".